ضحايا الحب
(( الدرس الثالث))
صحوة من سكار الحب
ومن المحبين من هجر الحب المحرم واتصل بالحب الشرعي الطاهر العفيف، فأنتقل من عالم الزور، ودنيا الهيام، وظلام الغرام، ومقام الآثام، إلى جنة الصدق، وروضة المعرفة، وبستان اليقين، وباحة الإيمان : فهذا ابن أبي مرثد هام ـ قبل أن يسلم ـ بفتاة وعشقها وسكب عمره في كأس هواها، وأفرغ روحه في كوب نجواها، وفرغ شبابه على تراب مغناها، فلما هداه الله وغسل قلبه من أدران الهوان وأوصار المعصية، أفاق ـ والله ـ من رقده الغفلة، ومن سنة الجهالة، ومن سكرة الغي، على صوت بلال، فارتجف جسمه، وتهذبت روحه، وأعلن في إباء، وصاح في استعلاء : أتوب إليك يا رب، وأقبل على المصحف، وهب إلى المسجد، واستعان بالصبر والصلاة، وأدمن الذكر، وسجل رائعته في ديوان الخلود وسفر النجاة ودفتر المجد :
أأبقى غويا في الضلالة ساردا كفي بالمرء بالإسلام والشيب ناهيا
وهذا لبيد بن ربيعة الشاعر المشهور، هام بالغزل ومات بالمقل، وانغمس في الشعر وحده، يعيش للقافية، ويضحي للقصيدة، ولكنه عرف الله عن طريق الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، فتاب من حياة العبث والضياع، ورجع إلى المحراب، وأقبل على التلاوة، وأنشد :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسب من الإسلام سربالا
ونذر لله لا ينظم ولو بيتا واحد، فإن فعل أعتق رقبة، وقال : كفتني سورة البقرة عن الشعر.
وهذا إبراهيم بن أدهم عاشق الملك، وهاوي الإمارة، والمولود في الرئاسة، فكر ذات يوم فقال : كان أجدادي وآبائي ملوكا فأين هم الآن ؟ هل تحس منهم أحد أو تسمع لهم ركزا ؟!، وتذكر قول الشاعر :
وسلاطينهم سل الطين عنهم والرؤوس العظام صارت عظاما !
فأعلن توبته، وفر من قصره، وخلع ثياب الملك، وهرب من الترف والجاه والنعيم إلى قرة وراحة الأرواح، فكان يسكن الخراب، ويمرغ أنفه بالتراب، ويأكل الشعير، وينام على الرصيف، ويقول نحن في عيش لو علم به الملوك لقاتلونا عليه بالسيوف:
أمطري لؤلؤا سماء سرنديب وفيضي آبار تكريت تبرا
أنا إن عشت لست أعدم خبزا وإذا مت لست اعدم قبرا!
وهذا عمر ابن عبد العزيز ابن النعمة والحشمة، وارث الدور والقصور، أرغد الناس في شبابه عيشا، وأكثرهم ترفا، وأزكاهم عطرا، لكن نفسه تاقت إلى الجنة فزهد في الفاني، ورغب في الباقي، واقبل على الله تعالى، وصدق مع ربه فعدل في الرعية، وأخلص في العبودية، وقاد الأمة الإسلامية خير قيادة، مع ورع متين، وعلم راسخ، وخشوع صادق :
جزاك ربي عن الإسلام مكرمة وزادك الله من أفضاله كرما.
من كتاب ((ضحايا الحب )) للعالم الرباني الدكتور عائض القرني.